ماذا نعرف عن "ممر ترامب" الجديد؟ ولماذا تركيا منزعجة؟

mainThumb
ماذا نعرف عن "ممر ترامب" الجديد؟ ولماذا تركيا منزعجة؟

14-08-2025 11:06 AM

printIcon

أخبار اليوم - بعد حرب قره باغ بين أرمينيا وأذربيجان، شددتُ الرحال إلى المنطقة، جُلت في الأراضي التي ظلت طويلا تحت الاحتلال الأرميني، أستعرض مشاهدها، وأبث من هناك تقارير متتابعة.

وكان من أعجب ما رأيت نهرُ أراس، ذو القيمة التاريخية والأدبية في وجدان العالَم التركي، وقد تعانقت ضفتاه بجسر خُدافرِين الساحر، رابطا بين أذربيجان وإيران. وعلى طرفه الجنوبي في أذربيجان الإيرانية، كان الإيرانيون يتنزهون، فيما يتفيأ الأذربيجانيون ظلال الطرف الآخر.

ولعل أكثر ما استوقفني آنذاك هو المسار الذي قيل إن "ممر زنغزور" سيمر به، قبل أن يشيع اسمه على الألسنة. هناك، عند ملتقى حدود إيران وأرمينيا وأذربيجان، كانت الأرض بكرا، لم تمسسها يد العمران، وحين زرت المكان عام 2021، كانت شركات المقاولات التركية قد شرعت حديثا في إنشاء الطرق السريعة.

وكانت تركيا تتطلع بشدة إلى فتح ذلك الممر، إذ إن أرمينيا كانت تقطع صلتها المباشرة بأشقائها من الأتراك، فلا منفذ من تركيا إلى نخجوان، ومنها إلى أذربيجان، إلا عبره.

ولو فُتح الطريق، لاتصلت تركيا بأخواتها في القوقاز وآسيا القريبة اتصالا مباشرا. غير أن إيران، وروسيا، وأرمينيا- كلٌ لأسبابه- وقفت حجر عثرة في وجهه.

التوتر بين موسكو وباكو: ربح صافٍ لواشنطن
قوة العلاقات التركية الأذربيجانية، وانتصار قره باغ، كانا من أبرز ما أضعف قبضة موسكو على القوقاز.

بدأت روسيا تضيق ذرعا باستقلال باكو المتزايد عن نفوذها. وبلغ التوتر ذروته حين أُسقطت طائرة مدنية أذربيجانية، فانفجر الرئيس علييف في وجه موسكو، معلنا عمليا نهاية هيمنتها على بلاده. حاولت روسيا، بأسلوبها المألوف في البرود والضغط، أن تُخضع باكو، لكن علييف لم يحِد عن موقفه.

ومع ذلك، أدرك أنه لا قبل له بمواجهة دولة سبق أن احتلت باكو، اعتمادا على دعم تركيا وحده. فاتخذ قرارا حاسما بالتحالف مع الولايات المتحدة، وقد كان- على الأرجح- لإسرائيل، الصديقة القريبة منه، دور في تشجيعه ودعمه. وهكذا، ظفر علييف بضمانة حماية أميركية ضد روسيا، وسار إلى واشنطن.


هل تنفك أرمينيا عن قبضة موسكو؟
كانت أرمينيا قد نالت دعما عسكريا من روسيا في حرب قره باغ، وهي في بنيتها الاقتصادية والعسكرية والطاقوية واللوجيستية تابعة لها تبعية شبه تامة. لكن ضغط الشتات الأرميني دفعها إلى مد الجسور مع الغرب.

وكانت الهزيمة في قره باغ نقطة تحول؛ إذ رأت أن موسكو لم تقدم لها العون الكافي، فبدأت تبحث عن بدائل.

والحق أن روسيا لم تكن تريد لأي من الطرفين أن يحرز نصرا حاسما، كي تبقي كليهما في ربقة تبعيتها. لكنها أخطأت فأغضبت الاثنين.

وبدأت أرمينيا تُراجع علنا مسألة القواعد العسكرية الروسية على أرضها، فتوترت العلاقة. ثم قربت المسافة مع أنقرة، وحصلت منها على وعد بالدعم الاقتصادي والطاقوي مقابل التطبيع مع أذربيجان.

لكن ذلك لم يكن كافيا لمواجهة موسكو، فطرقت باب واشنطن، وقبلت أن تتحول عملية السلام مع أذربيجان إلى عرض دعائي يقدمه ترامب.

خسارة مدوية لنفوذ روسيا
كانت كلفة حرب أوكرانيا على روسيا أثقل مما ظن كثيرون، لا من حيث الخسائر العسكرية والاقتصادية فحسب، بل من حيث تآكل نفوذها.

فقد خسرت موقعها في سوريا، وها هي عاجزة عن وقف تحولات جيوسياسية عميقة في القوقاز. وأذربيجان وأرمينيا، اللتان كانتا تدوران في فلكها، تنزلقان اليوم نحو الولايات المتحدة، فيما بوتين أسير استنزافه في أوكرانيا.

والآن، تستقبل واشنطن رئيسي البلدين، ويعلن ترامب، في عرض تلفزيوني، إحلال السلام بينهما. ولم تكتفِ الولايات المتحدة بالوساطة، بل وضعت يدها على ممر زنغزور، وتولت تشغيله وتطويره مدة تسع وتسعين سنة، وكأنه "رسم حماية" ضد موسكو.

من "زنغزور" إلى "طريق ترامب"
حين كنت أطل من ضفاف نهر أراس على الأفق البعيد حيث تلوح حدود أرمينيا، راودني الظن أن ممر زنغزور سيفتح يوما، وأن الطريق سيمر من التلال التي أجلس عليها. لكن لو أخبرني أحد أن الأميركيين هم من سيتولون إدارته، لما صدقت.

وعندما أُعلن في واشنطن عن الاتفاق، وعن تغيير اسم الممر إلى TRIPP (طريق ترامب للسلام والازدهار الدوليين)، كان وقع الخبر في تركيا مزعجاً، حمل مزيجا من الدهشة والتساؤل: "ما شأن أميركا هناك؟".

أبدت أنقرة، في بياناتها الرسمية، ارتياحها لفتح الطريق وتوقيع السلام بين أرمينيا وأذربيجان، وهنأ الرئيس أردوغان نظيريه علييف وباشينيان.

لكن في الأروقة، كان الامتعاض واضحا من أن يُسمى الممر باسم ترامب؛ فهذا الطريق، الذي سيدخل تحت السيطرة الأميركية، هو ذاته المعبر الإستراتيجي الذي طالما طمحت تركيا أن يكون شريانها إلى قلب آسيا. ومنه ستمر ليس القوافل وحدها، بل وخطوط الغاز والنفط، إيذانا ببداية تدفق ضخم للطاقة.

لكن ماذا لو ساءت العلاقة مع واشنطن غدا؟ صحيح أن ملكية الممر تعود لأرمينيا، لكن الولايات المتحدة، وقد ضمنت تشغيله لمدة قرن إلا قليلا، يصعب أن يخرجها منه أحد.

جغرافيا سياسية جديدة للقوقاز وآسيا
أعلنت تركيا، والولايات المتحدة، وأرمينيا، وأذربيجان رضاها عن الاتفاق، فيما لم تُخفِ إيران وروسيا امتعاضهما، وانضمت إليهما الصين، وإن من بعيد.

فقد وضعت واشنطن قدمها على بوابة آسيا، ومنها ستتجه إلى الدول الغنية بالثروات الباطنية، ولا سيما نفط وغاز كازاخستان، بما يتيح لأوروبا التحرر من الاعتماد الطاقوي على روسيا.


ومع تراجع موسكو، ستضطر بكين إلى إعادة النظر في مشاريع "طريق الحرير". وستعمل الولايات المتحدة من هذا المنفذ على إرباك روسيا شمالا، والصين شرقا، وإيران جنوبا.

وثمة ما هو أبعد: فالاتفاق يتيح لها أيضا إقامة وجود عسكري في أرمينيا، وإن لم تتضح بعد الصيغة.

لقد دخلت جغرافيا القوقاز مرحلة تحول عميقة، ويبقى السؤال: هل ترغب الولايات المتحدة فعلا في إنهاء حرب أوكرانيا، وهي ترى نفوذها يتسع كلما ضعفت روسيا؟