استُشهد وهو يبحث عن الحياة .. قصة أب لم يعد لأطفاله

mainThumb
استُشهد وهو يبحث عن الحياة.. قصة أب لم يعد لأطفاله

10-05-2025 10:09 AM

printIcon

أخبار اليوم - في زحام المجاعة ورائحة الموت التي تخيّم على غزة، هناك من تختطفه الحياة في لحظة بحث عن الخبز. الشهيد أحمد العامودي، ذو الثلاثة والثلاثين عامًا، لم يكن يحمل سلاحًا، ولم يكن يقف في مرمى معركة، بل كان يحمل همّ عائلة، وألم جوع، وسعيًا حثيثًا خلف كيس طحين يسد رمق طفلين لا يزال الدمع يبلل وسادتيهما، وزوجة ترقد الآن بين الحياة والموت في غرفة العناية المركزة.

استُشهد أحمد في مجزرة "بالميرا" المروّعة، تلك التي وقعت عندما استهدفت طائرات الاحتلال تجمعًا كبيرًا للمدنيين، معظمهم خرجوا كما خرج هو: بحثًا عن الطحين، عن الحياة، عن بصيص نجاة من مجاعة أرهقت غزة وأبكت أمّها الثكلى. المجزرة أزهقت أرواح 33 شهيدًا، وخلّفت عشرات الجرحى، من بينهم زوجة أحمد التي كانت ترافقه لحظة القصف، فأصيبت إصابة بالغة نُقلت على إثرها إلى غرفة العناية المكثفة، ولا تزال تصارع الموت.

هكذا بدأ محمد، شقيق أحمد، حديثه لـ "فلسطين أون لاين" وهو يجرّ خلف صوته بكاءً متقطعًا، وذاكرة لا تقوى على التصديق. قال: "أحمد كان كل شيء. كان محبوبًا من الجميع، طيب القلب، هادئًا، لا يعلو صوته على أحد. عاش ضمن عائلة مستورة، لكنه كان غنيًا بالحب، بالرضا، وبالكرامة. مرضي الوالدين، وكان القائم على شؤوننا منذ رحيل والدنا. تعب كثيرًا، لكنه ما اشتكى يومًا، كل همه أن نعيش."

يعيش محمد الآن مع أطفال أحمد، طفلين لم يكتمل لهما بعد حضن الطفولة، يلهوان في البيت دون أن يدركا أن والدهما لن يعود، وأن أمهما في المستشفى بين أزيز الأجهزة وأنين الغيبوبة.

"كان كل يوم يخرج يبحث عن شيء نأكله. يذهب من بيت لبيت، من مؤسسة لمؤسسة، من طابور لآخر. يوم استشهاده، ذهب مع زوجته للبحث عن لقمة العيش لأطفالهما."

قبل الحرب، كان لأحمد وجه آخر؛ وجه الفتى المحب لكرة القدم، الذي يركض في الملاعب الشعبية بشغف طفل، يشارك في البطولات ويهتف لفريقه المفضل، ريال مدريد. في حي الشاطئ الشمالي، عرفه الجميع بذلك القميص الأبيض، يبتسم وهو يناور الكرة بين أصدقائه، يضحك ويشجّع بحرارة. لم يكن أحد يتخيّل أن قدمه التي كانت تركض خلف الكرة، ستركض ذات يوم خلف رغيف خبز، ثم تتوقف إلى الأبد تحت ركام الغدر.

يقول محمد: "الحرب قلبت حياتنا. أحمد كان دائمًا يقول: زمان كنا نحلم نجيب جول، الآن بنحلم نعيش.. نحلم نلاقي خبز، بس كان دايمًا يقاوم عشان ولاده."

في ظهيرة ذلك اليوم، كانت السماء رمادية، كأنها تنذر بما هو آت. خرج أحمد ومعه زوجته، وبابتسامة مرتعشة ودّع طفليه وربّت على رأسيهما، متأملًا أن يجد ما يسد رمقهم، لكنهما لم يعودا كما خرجا.

في المساء، تناقل الناس صور المجزرة. أجساد مبعثرة، دماء تلطّخ الأرصفة، صراخ في المستشفيات، وأسماء تُذاع تباعًا عبر صفحات التواصل الاجتماعي. في بيت العامودي، ساد صمت مخيف. ثم جاء الاتصال: "أحمد استُشهد، وزوجته مصابة".

وصلوا إلى المستشفى ليجدوا جثمانه مسجًى، مغطى بعلم، وملامحه لم تتغير كثيرًا، سوى أنه كان نائمًا.. نائمًا بسلام وسط جنون الحرب. وإلى جواره، في غرفة أخرى، كانت زوجته تصارع الموت، لا تدري أنها فقدت رفيق حياتها.

"أوصاني على أولاده، وعلى أمه.. قال لي: يا محمد، لو صارلي شيء، دير بالك عليهم.. أنا ما بدي شيء، بس ما بدي ولادي يناموا جوعانين."

"وأنا مش عارف أوفي، والله مش عارف. أحمد راح، وزوجته بالمستشفى، وأولاده يسألوني كل يوم: بابا وين؟ شو بدي أحكيلهم؟"

الشهيد أحمد العامودي لم يكن مجرمًا، لم يكن مسلّحًا، لم يكن في صفوف القتال. كان إنسانًا، وأبًا، وزوجًا، خرج لتأمين رغيف خبز. لكنه عاد محمولًا على الأكتاف، ودماؤه شاهدة على جريمة تُرتكب كل يوم في غزة.

وفي ذاكرة كل من عرفه، سيبقى أحمد ذاك النبيل، عاشق الحياة، الذي خذلته الدنيا في حياته، واحتضنته السماء أخيرًا.

المصدر / فلسطين أون لاين