"ديما" .. طفلة كتبت مذكّرات الألم بدلًا من واجباتها المدرسية

mainThumb
"ديما".. طفلة كتبت مذكّرات الألم بدلًا من واجباتها المدرسية

11-10-2025 10:05 AM

printIcon

أخبار اليوم - في ركن صغير من مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، تجلس الطفلة ديما أبو اشكيان على كرسي متحرك، تحتضن دفترًا مهترئًا بين يديها الصغيرتين، وكأنها تحاول من خلاله أن تسترجع حياة لم تعد موجودة.

تكتب فيه بصمت، لا لتنجز واجباتها المدرسية، بل لتبوح بما عجز قلبها الصغير عن احتماله.

"ديما" ذات الأعوام الثمانية، لم تعد كما كانت قبل عام، فقدت كل شيء دفعة واحدة: والدها، والدتها، إخوتها، منزلها، وحتى ساقيها. أصبحت الناجية الوحيدة من عائلتها بعد أن غيّرت صواريخ الاحتلال مجرى حياتها بالكامل، فجر يوم 23 أكتوبر 2023، حين استُهدِف منزل جدها في مخيم جباليا، حيث كانت العائلة قد لجأت إليه بحثًا عن أمان لم يجدوه.



معجزة حيّة

كان المنزل المستهدف يضم 28 شخصًا من عائلة واحدة، وقبل أن تشرق شمس ذلك اليوم، كان معظمهم قد ارتقوا شهداء تحت الركام.

وحدها "ديما" خرجت من بين الأنقاض بعد ثماني ساعات، فاقدة الوعي، محاطة بالدماء والغبار، وجسدها الصغير مثخن بالجراح. أصيبت بجراح بالغة في الرأس، وحروق في الظهر والبطن، وكسور متعددة، إلى جانب فقدان جزئي للعظام في إحدى ساقيها.

تقول عمتها أمال عزيز، التي تكفلت برعايتها، لصحيفة "فلسطين": "ديما خرجت من بين الركام كأنها معجزة حيّة، لكن ما تحمله في داخلها لا يُرى، فجروحها النفسية أعمق من جراح جسدها".

وتضيف عزيز بحزن: "الحصار المفروض على غزة وانهيار النظام الصحي جعلا علاج ديما أقرب إلى الحلم. رغم خضوعها لعدة عمليات، إلا أن حالتها ما زالت حرجة".



تعاني "ديما" من ضمور في الأعصاب يمنعها من الوقوف أو المشي، وجروح مفتوحة في ساقيها ورأسها، وتحتاج إلى عمليات معقّدة في الخارج: زراعة عظم في ساقها اليمنى التي فقدت منها سبعة سنتيمترات، وعمليات أعصاب دقيقة، إضافة إلى زراعة جلد وشعر في الرأس لتغطية آثار الجراحة.

وتقول عمتها بألم: "ديما لا تحتمل الانتظار، هناك خطر دائم من البتر، أو حتى فقدان حياتها إن لم تُعالج بشكل عاجل".

فقدان متجدد

وكأن ما عاشته "ديما" لم يكن كافيًا، ففي 9 أكتوبر 2024، وبينما كانت لا تزال تخضع للعلاج، استُشهد والدها أمين في قصف جديد على مخيم جباليا.

كان قد بدأ يتأقلم مع فجيعته ويحاول التمسك بابنته الوحيدة المتبقية، لكنه رحل قبل أن يراها تمشي مرة أخرى.

وتوضح العمة أمال أن العائلة لم تتمكن من انتشال جثمانه بسبب الركام الكثيف، وما زالت "ديما" تنتظر أن يُدفن والدها كما يليق به، لا أن يبقى جسده مفقودًا تحت الأنقاض.

وعندما علمت بخبر استشهاده، دخلت الطفلة في انتكاسة حادة جسديًا ونفسيًا، توقفت عن الكلام وامتنعت عن تناول الطعام، ولم تجد سوى دفتر مذكراتها لتكتب فيه أحزانها.

في كل صفحة من صفحات دفتر "ديما" تختبئ طفولة مكسورة، تكتب بخطٍ صغير ومرتبك تساؤلات لا إجابة لها: "أين أمي؟ لماذا لم أمت معهم؟ متى سأمشي مجددًا؟"

تمسك القلم بقوة، كما لو أنها تتشبث بالحياة من خلاله، وتخفي أوراقها عن الجميع، وكأنها تحاول حماية ذاكرتها من النسيان.

تقول عمتها: "كلما قرأت شيئًا من دفترها، أشعر أن قلبي ينكسر ألف مرة. لم أعد أراها تبتسم إلا نادرًا، تَحنّ لأيام المدرسة، ولأخوتها، ولصوت والدتها".

ورغم أنها كانت من المتفوقات في المدرسة وتحمل شهادة امتياز في الصف الرابع، إلا أن كرسيها المتحرك بات مقعدها الدائم، بعيدًا عن فصول الدراسة، تنتظر رعاية طبية تعيد إليها نافذة الأمل بالحياة.

طفولة تحت الركام

خلّفت الحرب المستمرة على القطاع دمارًا واسعًا، وصفه حقوقيون بأنه يرقى إلى جرائم إبادة جماعية، إلا أن القصص الإنسانية غالبًا ما تضيع وسط الأرقام والإحصاءات.

وقصة "ديما" واحدة من آلاف القصص، لكنها تختصر المعاناة في وجهٍ صغير ودمعة لا تجف.

تتحمل عمتها، التي فقدت بدورها زوجها في الحرب، عبء رعايتها إلى جانب أطفالها، وتناشد الضمير الإنساني لعلاج ابنة شقيقها: "هي لا تطلب معجزة، فقط فرصة للعلاج، لطفلة تستحق الحياة".

وتختم أمال قائلة: "كل ما تريده ديما أن تعيش، أن تذهب إلى المدرسة، أن تمشي بقدميها، أن تلبس فستانًا وتلعب كما كانت تفعل... هل هذا كثير؟".

وفي الذكرى السنوية الأولى لاستشهاد والدها، لا تضع "ديما" الورود، ولا تزور قبرًا، لأن جثمانه ما زال تحت الركام، لكنها تكتب في دفترها كعادتها — ربما قصيدة، أو رسالة، أو مجرد كلمة واحدة: "بابا".

ولا تزال صرخة "ديما" تنتظر من يسمعها: هل من قلبٍ ينبض في هذا العالم يمكنه أن يستجيب لطفلة تريد فقط أن تُعالج... أن تعود إلى الحياة من جديد؟ قبل أن يغلق الزمن عليها الباب الأخير.



المصدر / فلسطين أون لاين