أخبار اليوم - مروان بريزات
في الأردن، ثمة ظاهرة آخذة بالتمدد كما الدخان، تملأ الفضاءات الإعلامية وتحجب الرؤية عن الحقيقة: عشرات المحللين السياسيين والعسكريين يملؤون الشاشات والمنصات، يتبادلون المواقع على طاولات الحوار، ويتصدرون العناوين، لكنهم – في الحقيقة – يفتقدون أدنى مقومات التحليل الاستراتيجي والخبرة الميدانية أو الأكاديمية.
هؤلاء الأشخاص، الذين يكتسبون صفات "الخبير" بقرار من أنفسهم أو من بعض منصات الإعلام المتعطشة للوجوه المتاحة، باتوا يشكلون حالة ضبابية مقلقة في المشهد الإعلامي الأردني. فتارةً يقدم أحدهم قراءات عسكرية لواقع ميداني لم يعايشه، وتارةً يتحول آخر إلى محلل سياسي يتحدث في الشأن الدولي والإقليمي، دون أن يمتلك أي خلفية في العلاقات الدولية، أو حتى الاطلاع على خرائط النفوذ السياسي في المنطقة.
فوضى المشهد التحليلي
اللافت أن هذه الفئة تتداولها وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي بسرعة، وكأنها الورقة الرابحة في كل موجة أحداث. فكلما اشتدت الأزمة، أو انطلقت شرارة الحرب، خرج علينا "خبير جديد" يضع نفسه في الصفوف الأمامية للحديث عن جيوسياسية الإقليم، أو خرائط التحرك الميداني، أو طبيعة التسليح، أو حتى المفاوضات الكبرى، دون سند علمي، ولا خبرة ميدانية، ولا سجل في العمل السياسي أو العسكري الحقيقي.
وهذا التدفق غير المدروس أسهم في إرباك المشهد العام، وصناعة رأي عام مُشوَّه، لا يستند إلى الوقائع، بل إلى الانطباعات والتكهنات والثرثرة المقنعة بلغة مرتبة.
تغييب الخبراء الحقيقيين
السؤال الذي يطرح نفسه بقوة: أين اختفى المحللون الحقيقيون؟ أين الضباط المتقاعدون الذين خاضوا الحروب وفككوا غرف العمليات؟ أين السياسيون أصحاب التجربة الذين جلسوا على طاولة المفاوضات وفهموا كيف تدار اللعبة الدولية؟ وأين الأكاديميون الذين أنفقوا سنوات في فهم التحولات الكبرى في النظام العالمي؟
لماذا لم تعد وسائل الإعلام تسعى إليهم؟ هل لأنهم أكثر صمتًا وأقل إثارة؟ أم لأنهم لا يتحدثون بما يُطلب منهم؟ أم لأنهم ببساطة "مكلفون" على القنوات التي اعتادت الوجوه المجانية والمعلّبة؟
أثر على الأمن الفكري
ما يجري اليوم لا يمكن تصنيفه ضمن إطار التنوع، بل هو تهديد مباشر للأمن الفكري الوطني، حين يُستبدل العلم بالضجيج، والخبرة بالانطباع، ويصبح من يتقن الحديث أكثر من يتصدر الشاشات. حينها، نفقد البوصلة، ونتحول من متلقين للمعلومة إلى ضحايا للارتباك والتحليل المُضلّل.
إن ما يُبث اليوم في كثير من وسائل الإعلام لا يتجاوز كونه شكلاً من أشكال "التحليل الترفيهي"، لا يصنع وعياً، ولا يُحصّن رأياً عاماً، بل يضعف الجبهة الداخلية، حين يغيب العقل الاستراتيجي، ويُستبدل بمن يهوى الحديث في كل شيء ولا يُتقن شيئاً.
ختامًا...
نحن بحاجة لإعادة ضبط المشهد التحليلي في الإعلام الأردني. لا يمكن أن نبني رأياً عاماً مستنيراً في ظل هذا الطوفان من الأصوات العشوائية. لا بد من استعادة الخبراء الحقيقيين إلى الواجهة، وتوفير المنابر لهم، لا لأنهم أكثر شهرة، بل لأنهم أكثر فهماً... ولأن الأوطان لا تبنى على التحليل الرخيص، بل على الفهم العميق.