أخبار اليوم - لم يكن صباحًا عاديًا في منتزه برشلونة المدمر بمنطقة تل الهوا جنوب غرب مدينة غزة، فمن قلب الركام وبين أطلال الحرب، صدح صوت النشيد الوطني الفلسطيني "فدائي فدائي يا أرض الجدود". اصطفت عشرات الفتيات والفتيان في طابور صباحي أنيق، يقفون بثبات يتقدمهم طالبان يرفعان العلم الفلسطيني.
تلت كلمة مديرة المدرسة بعض الحركات الرياضية التي نفذها طلبة المرحلة الابتدائية بكل نشاط وحيوية، تعكس اشتياقهم لكل تفاصيل يومهم المدرسي الذي افتقدوه بسبب حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة منذ أكثر من عام وسبعة أشهر.
تتقدّم معلمة بحجابها الأبيض وابتسامتها الدافئة نحو الإذاعة المدرسية، لتمد الطلاب برسائل أمل ووعي، في محاولة لإعادة بناء ما هدمته حرب الإبادة التي حوّلت مدارسهم إلى ركام.
لم تكن هذه مدرسة نظامية، بل مبادرة أطلقتها المعلمة نهى حلس، حملت اسم "من بين الألم يخرج الإبداع"، لتعيد للطلاب بعد عامين من الحرمان شيئًا من دفء الطابور والانضباط والانتماء.
نهى حلس، مديرة المبادرة، ومعلمة الكيمياء الحاصلة على لقب المعلم العالمي لعام 2021، والعديد من الجوائز التعليمية المحلية والدولية، تقول: "منذ بداية العدوان على القطاع بعد السابع من أكتوبر صممت على تنفيذ مبادرات تعليمية في أكثر من مكان في قطاع غزة لحماية الأطفال من الجهل وقلة التعلم بسبب الحرب".
وتوضح حلس لصحيفة "فلسطين": "على مدار عام وثلاثة أشهر قبل عودتي للشمال نفذت أكثر من 20 مبادرة تعليمية انضم إليها آلاف الطلبة على مستوى قطاع غزة، وشهدت دعمًا وتشجيعًا كبيرين من وزارة التربية والتعليم ووكالة الأونروا وغيرها من المؤسسات الداعمة".
وتشير إلى أن فكرة المبادرة "من بين الألم يخرج الإبداع" وُلدت بعد عودتها من رحلة نزوح إلى جنوب قطاع غزة، إلى حي تل الهوا حيث تسكن وتقيم. فحين عادت إلى الحي في فبراير 2025 وجدت حيّها مدمّرًا بالكامل، لا توجد مدارس ولا حتى خيمة تعليمية واحدة. حينها قررت أن تقيم نقطة تعليمية في منتزه برشلونة، ليستقبل أطفال الحي والمخيمات المجاورة.
لم تكن تتوقع الإقبال الكبير من الأهالي والطلبة، إذ بلغ عدد المسجلين أكثر من 700 طفل، بينما لا تستطيع استيعاب سوى 400 بسبب غياب اللوجستيات المطلوبة وعدم توفر خيام وقرطاسية ومواد دراسية وغيرها.
أمل يواجه الحصار
ورغم أن حلمها كان يمتد إلى افتتاح مدرسة للمرحلتين الإعدادية والثانوية إلى جانب المرحلة الابتدائية، إلا أن ضعف الإمكانات حال دون ذلك حتى الآن.
تقول نهى بأسى: "نطمح لأن تضم المدرسة أكثر من 1200 طالب، لكننا نواجه معوقات كبيرة: لا خيام كافية، لا كراسٍ ولا طاولات، لا سياج لحماية الطلاب، حتى المياه والحمامات غير متوفرة، بالإضافة إلى عدم توفر اللوجستيات الخاصة بالمدرسة التعليمية".
وتضيف: "ومع أن المدرسة بلا جدران، إلا أن ما يُميزها هو روح الفريق؛ سبعة معلمين، ومنشطة نفسية، ومشرفون متطوعون، جميعهم يعملون بلا أجر، فقط إيمانًا بأن التعليم شريان الحياة. يعاملون الطلبة كما لو كانوا أبناءهم، يخصصون وقتًا للدعم النفسي، ويحرصون على دمج كل حالة منفردة في الصف".
وسط صيف قاسٍ وحصار خانق، ما تزال نهى تطمح لتطوير مدرستها، وتقول: "نحتاج إلى خيام جيدة التهوية، طاقة شمسية لتشغيل السماعات، كراسي وطاولات للأطفال، قرطاسية، خزّان مياه، وحمامات. إنها احتياجات أساسية لنعيد للأطفال حقهم في التعليم".
لكنها، رغم كل التحديات، تقول بحزم: "هذه ليست مجرد مبادرة، إنها رسالة مقاومة، فكل يوم يرفع فيه طفل علم بلاده ويردد نشيده، هو انتصار على الحرب".
دعم الحلم
جمعية السنابل للشباب والتنمية، أحد الداعمين للمبادرات التعليمية، علمت بإنشاء المبادرة للاطلاع على تفاصيلها، وقالت: "بعد زيارة المدرسة، رأينا إصرارًا حقيقيًا من المديرة والمعلمين والطلبة، رغم الفقر والدمار، هناك رغبة قوية في التعلم".
وتؤكد لـ"فلسطين" أن التعليم شريان أساسي في قطاع غزة للجميع، وقبل الحرب الإسرائيلية كان القطاع يعد من أكثر المناطق تعلّمًا على مستوى العالم، وكانت نسبة الأمية فيه أقل من 1%، مشددة على أن أي دعم يمكن تقديمه لأي مبادرة تعليمية سيكون هامًا في مثل هذا الوقت العصيب الذي يمر به أهالي قطاع غزة.
ونبهت الجمعية إلى أنها دعمت المعلمين بمبالغ مالية تعينهم على المهمة الشاقة التي يقومون بها، بالإضافة إلى تقديم هدايا للطلبة المتميزين والمتفوقين في المدرسة، داعيةً جميع المؤسسات إلى دعم المبادرات التعليمية في قطاع غزة لأن بها الأمل الذي سيعيد إحياء الوطن من جديد.
فلسطين أون لاين