أخبار اليوم - بعد منتصف ليل الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024 بقليل، تجمّع عشرات الأشخاص في الظلام خارج القسم العسكري من مطار دمشق الدولي. كانوا يحملون ما استطاعوا حمله من أمتعة، وصعدوا على عجل إلى طائرة صغيرة تابعة للخطوط الجوية السورية.
قبل تلك الليلة فقط كان هؤلاء يُشكّلون نخبة النخبة في واحد من أكثر الأنظمة قسوة في العالم. أمّا الآن، وبعد السقوط المفاجئ للرئيس بشار الأسد وهروبه من البلاد، فقد تحوّلوا إلى فارّين، يسعون للهرب مع عائلاتهم بأي وسيلة.
كان من بين الركاب قحطان خليل، مدير استخبارات سلاح الجو السوري، والمتهم بالمسؤولية المباشرة عن واحدة من أبشع المجازر التي شهدتها الحرب الأهلية السورية المستمرة منذ 13 عاماً.
وانضم إليه علي عباس وعلي أيوب، وهما وزيرا دفاع سابقان، يواجهان عقوبات دولية بسبب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وجرائم ارتُكبت خلال الصراع.
كما كان بينهم رئيس الأركان عبد الكريم إبراهيم، المتهم بتسهيل عمليات التعذيب والعنف الجنسي ضد المدنيين.
رُويت تفاصيل وجود هؤلاء وغيرهم من شخصيات النظام في الرحلة لصحيفة «نيويورك تايمز» على لسان أحد الركاب ومسؤولَيْن سابقَيْن مطلعَين على الواقعة.
ومع تقدُّم الهجوم الخاطف الذي شنّته فصائل المعارضة واقترابها من العاصمة دمشق، مثّل الهروب السري للأسد في تلك الليلة صدمةً لدائرته الضيقة، وأصبح رمزاً لسقوط نظامه المذهل.
سارع رجاله إلى تقليده، ففي غضون ساعات، لم تقتصر الكارثة على انهيار ركائز النظام، بل اختفت أعمدته بالكامل.
بعضهم استقلّ طائرات، وآخرون فرّوا إلى فيلاتهم الساحلية وانطلقوا منها على متن زوارق فارهة.
وفرّ بعضهم في قوافل من السيارات الفاخرة، ومرّوا عبر نقاط التفتيش التي أقامها المقاتلون المعارضون حديثاً دون أن يعرف هؤلاء من هم. أمّا بعضهم الآخر فاختبأ في السفارة الروسية، التي ساعدت في تهريبهم إلى موسكو، الحليف الأهم للأسد.
بالنسبة لآلاف السوريين الذين فقدوا أحبّاءهم أو تعرّضوا للتعذيب أو السجن أو التهجير على يد النظام، فقد تحوّلت بلادهم إلى مسرح جريمة هائل، في حين اختفى المشتبه بهم الرئيسيون جماعياً.
بعد 10 أشهر من انهيار النظام، تواجه سوريا المدمَّرة بالحرب تحدياً مزدوجاً: إعادة البناء من جهة، وملاحقة المسؤولين عن بعضٍ من أسوأ الجرائم التي ارتكبتها دولة في هذا القرن من جهة أخرى.
يحاول مقاتلو المعارضة السابقون والحكومة السورية الوليدة تعقُّب الفارين عبر المخبرين، وعمليات الاختراق الإلكتروني للهواتف والحواسيب، وجمع القرائن من مقارّ النظام المهجورة. في الوقت نفسه، يقوم المدعون العامون في أوروبا والولايات المتحدة بإعداد ملفات أو إعادة فتح قضايا، في حين توثّق منظمات المجتمع المدني السورية ومحقّقو الأمم المتحدة الأدلة والشهادات، استعداداً ليوم يأملون فيه أن تتحقّق العدالة.
لكنّ أهدافهم من أكثر الأشخاص تكتّماً في العالم. كثيرون منهم مارسوا سلطة مطلقة لعقود، ومع ذلك ظلّت هوياتهم الحقيقية غامضة: أسماؤهم الحقيقية، أعمارهم، بل حتى ملامحهم غير معروفة.
نقص المعلومات هذا أدّى مراراً إلى أخطاء في التقارير الإعلامية، وفي قوائم العقوبات والملاحقات القانونية، ما ساعد بعض من أبرز مجرمي النظام على الإفلات من السلطات السورية والأوروبية منذ سقوط الأسد.
وسائل الاختفاء
خلال الأشهر الماضية، عمل فريق تحقيق في صحيفة «نيويورك تايمز» على سدّ الثغرات في المعلومات المتعلقة بـ55 شخصية من كبار مسؤولي النظام السوري السابقين -جميعهم مدرجون على قوائم العقوبات الدولية- لتوثيق أدوارهم الحقيقية في أكثر فصول الحرب السورية دموية.
شمل التحقيق تتبّع الآثار الرقمية، وحسابات وسائل التواصل الاجتماعي العائلية، إضافة إلى البحث في العقارات المهجورة عن فواتير هواتف وبطاقات ائتمان قديمة.
وأجرى الصحافيون مقابلات مع عشرات المسؤولين السابقين في النظام، تحدّث كثيرون منهم بشرط عدم الكشف عن هوياتهم لأسباب أمنية، إلى جانب محامين سوريين معنيين بحقوق الإنسان، ومسؤولين في أجهزة إنفاذ القانون الأوروبية، وممثلي المجتمع المدني، وأعضاء من الحكومة السورية الجديدة. كما زاروا عشرات الفيلات والشركات المهجورة المرتبطة بأركان النظام، وأعادوا رسم مسارات هروبهم.
لا يزال مكان وجود العديد من هؤلاء الـ55 مسؤولاً غير معروف، لكنّ مصائر من تمكّن الفريق من تتبّعهم تفاوتت كثيراً.
فبشار الأسد نفسه يقيم في روسيا، ويبدو أنه قطع اتصاله بمعظم دائرته السابقة، وفقاً لشهادات مسؤولين سابقين وأقارب ومعارف.
أما ماهر الأسد، الذي كان الرجل الثاني في السلطة، فيعيش حياة منفى مترفة في موسكو، إلى جانب عدد من كبار القادة العسكريين السابقين، مثل جمال يونس، وفقاً لمصادر من داخل النظام السابق ورجال أعمال مقرّبين منهم، بالإضافة إلى أدلة مرئية جرى التحقق منها من قبل الصحيفة.
في المقابل، فإن شخصيات مثل غياث دلّا -العميد الذي شاركت قواته في قمع الاحتجاجات بعنف- تقيم في لبنان، وتُخطط لعمليات تخريب بالتنسيق مع قادة سابقين مثل سهيل الحسن وكمال الحسن من موسكو، حسبما ذكره ضباط منشقون، مقدّمين للصحيفة مراسلات نصية تؤكد ذلك.
ووفق مصادر في الحكومة السورية الجديدة، عقد بعض المسؤولين صفقات غامضة للبقاء داخل سوريا. في حين اكتشف صحافيو «نيويورك تايمز» أن عمرو الأرمنازي، الذي أشرف على برنامج الأسلحة الكيميائية للأسد، لا يزال يعيش في منزله بدمشق.
تتبّع هذا العدد الكبير من الشخصيات يُمثل تحدّياً هائلاً للجهات الساعية للعدالة، فهناك قضايا يجب بناؤها، وأسماء يجب التحقّق منها، وشبكات مالية معقدة تُغطي على تحركاتهم.
لكن جوهر التحدي يتمثل في تنسيق الجهود الدولية للبحث عن أشخاص لا يريدون أن يُعثر عليهم.
فقد كان كثير منهم يمتلك صلاحيات تخوّلهم إصدار جوازات سفر حقيقية بأسماء مزيفة، وفقاً لموظفين سابقين في الحكومة. الأمر الذي سمح لهم لاحقاً بالحصول على جوازات من دول في الكاريبي باستخدام تلك الهويات الجديدة.
يقول مازن درويش، مدير «المركز السوري للإعلام وحرية التعبير» في باريس: «بعض هؤلاء اشتروا هويات جديدة عبر برامج الجنسية مقابل الاستثمار أو عبر دفع أموال ضخمة. إنهم يستخدمون الأسماء والجنسيات الجديدة للاختباء». ويضيف: «هؤلاء يملكون الوسائل المالية التي تمكّنهم من التحرك بحرية، وشراء جوازات جديدة، والاختفاء عن الأنظار».
تفاصيل الهروب من دمشق... «لقد رحل»
بدأت الموجة الكبرى من الهروب في وقت متأخر من ليلة 7 ديسمبر 2024، بعد لحظة إدراك صادمة.
لساعات، كان عدد من مساعدي الأسد الكبار في القصر الرئاسي يتلقّون اتصالات من زملائهم وأقاربهم. كانوا يطمئنونهم بأن الرئيس لا يزال هناك، يناقش مع مستشاريه الروس والإيرانيين خطةً لصدّ هجوم المتمردين المتقدمين نحو العاصمة.
لكنّ تلك الخطة لم تُنفّذ مطلقاً، ولا ظهر الأسد بعدها.
وعندما أدركوا أنه اختفى، تتبّع كبار مساعديه أثره إلى منزله، وفقاً لثلاثة مسؤولين سابقين في القصر. بعد قليل، أبلغهم الحرس الخارجي أن الروس نقلوه في قافلة من 3 سيارات رباعية الدفع برفقة ابنه ومساعده الشخصي، وأنه لم يصطحب معه سوى مستشارَين ماليين ليساعداه لاحقاً في الوصول إلى أمواله في روسيا.
صعد الرئيس المخلوع ومرافقوه إلى طائرة متجهة إلى قاعدة «حميميم» الجوية الساحلية، التي تُسيطر عليها القوات الروسية؛ والتي كانت الداعم العسكري الأهم للأسد طوال الحرب.
عندما وصلت أنباء الرحلة، بدأ كبار الموظفين يتصلون بعائلاتهم في حالة ذعر، فالمتمردون كانوا قد بلغوا ضواحي دمشق، والوقت لم يكن في صالحهم.
قال أحد كبار المساعدين لأحد أقاربه، وهو يروي تلك الليلة للصحيفة: «لقد رحل».
ثم أمر أسرته بأن تحزم أمتعتها وتتوجه فوراً إلى وزارة الدفاع في ساحة الأمويين وسط العاصمة.
هناك، انضمّ إلى عدد من ضباط الأمن الكبار وعائلاتهم، بينهم قحطان خليل، مدير استخبارات سلاح الجو، الذي كان قد دبّر رحلة هروب خاصة إلى قاعدة «حميميم». أقلعت الطائرة، وهي من طراز «ياك-40»، من مطار دمشق نحو الساعة 1:30 فجراً يوم 8 ديسمبر، وفقاً لأحد الركاب، وهو مسؤول سابق في القصر.
تحليل صور الأقمار الصناعية يؤكد روايتهم: فقد ظهرت طائرة «ياك-40» على مدرج مطار دمشق قبل أيام، ثم اختفت في الليلة نفسها، وظهرت مجدداً في قاعدة «حميميم» بعد وقت قصير.
قال الراكب السابق: «كان الركاب في حالة هلع تام، فالرحلة لا تستغرق سوى 30 دقيقة، لكنها في تلك الليلة بدت كأنها دامت إلى الأبد».
وفي مكان آخر من العاصمة، كان ماهر الأسد، قائد «الفرقة الرابعة» سيئة الصيت، يُنظم هروبه الخاص. اتصل بأحد أصدقائه المقربين، وأحد رجال أعماله، طالباً منهما مغادرة منزليهما فوراً. وبعد دقائق، وصل بسيارته مسرعاً، وأقلّهما معه نحو المطار للحاق بطائرته الخاصة.
فوضى داخل أجهزة الأمن ونهب أثناء الفرار
كانت الاستخبارات العامة تضم نحو 3 آلاف عنصر ما زالوا داخل المجمّع الأمني الضخم في جنوب غربي دمشق، غير مدركين أن النخبة الحاكمة هربت بالفعل. كانوا في حالة تأهب قصوى تحت قيادة حسام لوقا، أحد أكثر رموز القمع شهرة، والمسؤول عن الاعتقال الجماعي والتعذيب الممنهج.
وصفه أحد ضباطه بأنه شديد الولاء للأسد: «لم يكن ليحرك منفضة سجائر من مكانها دون إذن بشار».
تلقّى الضباط أوامر بالاستعداد لهجوم مضاد، لكن الأمر لم يصدر مطلقاً.
قال أحد أصدقاء لوقا إنه اتصل به مراراً في تلك الليلة للحصول على تطمينات، وكان الجواب دائماً: لا خطر. ثم، عند الثانية فجراً، أجاب لوقا أخيراً وقال باقتضاب إنه يحزم حقائبه للهرب.
بعد ساعة، دخل ضباطه مكتبه فوجدوه قد غادر دون كلمة، وبعد تفتيش الخزنة تبيّن أنه أمر محاسب الجهاز بفتحها وسحب كل ما فيها من أموال (نحو مليون وثلاثمائة وستين ألف دولار). ويُعتقد أنه وصل لاحقاً إلى روسيا، وفقاً لـ3 مسؤولين سابقين.
في المبنى نفسه، فعل كمال الحسن، رئيس الاستخبارات العسكرية، الشيء نفسه. استولى على قرص صلب وأموال من خزنة مكتبه، حسب أحد أصدقائه ومسؤول سابق على تواصل مع أحد مساعديه.
لكنّ هروبه لم يكن سهلاً، فقد أصيب بجروح في اشتباك مع المتمردين أثناء محاولته مغادرة منزله في ضاحية تُعرف سابقاً باسم «قرى الأسد»، وهي منطقة فاخرة يسكنها كبار المسؤولين. تنقّل من بيت إلى بيت قبل أن يصل إلى السفارة الروسية التي آوته، ثم هرّبته إلى قاعدة «حميميم»، كما نقل 3 مصادر.
من داخل السفارة، تواصلت الصحيفة مع الحسن عبر وسيط، لكنه رفض الكشف عن موقعه أو إجراء مقابلة، مكتفياً بالقول إنه لجأ إلى «بعثة دبلوماسية» قبل مغادرته البلاد.
ومن بين مَن لجأوا أيضاً إلى السفارة الروسية علي مملوك، مدير الأمن الوطني المتقاعد، الذي يُعدّ العقل المدبر لجهاز القمع الأسدي طوال 5 عقود.
قال أحد أصدقائه: «كان الصندوق الأسود للنظام، منذ أيام حافظ وحتى بشار. يعرف كل الأسرار».
تمكّن مملوك من الفرار إلى السفارة الروسية بعد نجاته من كمين غامض استهدف موكبه قرب دمشق، ثم نُقل مع كمال الحسن إلى قاعدة «حميميم» ومنها إلى روسيا.
مصير مجهول وعدالة غائبة
من أجل تقليل المقاومة، كان هناك تفاهم غير معلن بين بعض قادة المتمردين يقضي بغضّ الطرف عن الفارين باتجاه الساحل السوري (معقل الطائفة العلوية التي ينتمي إليها الأسد).
لكن هذا التسامح لم يكن ليُمنح مطلقاً لرجل مثل اللواء السابق بسام الحسن، أحد أكثر رجالات النظام رهبة، المتهم بالإشراف على الهجمات الكيميائية، واختطاف الصحافي الأميركي أوستن تايس.
مع ذلك، تمكن الحسن من الفرار بهدوء، بعد أن أيقظه أحد ضباطه قبيل الفجر. جمع عائلته وأمواله في 3 سيارات، حرصاً على ألا تُصاب العائلة بأكملها في حال وقوع كمين.
وعندما وصلت القافلة إلى حمص، أوقف المتمردون السيارة الأولى، وأجبروا زوجته وابنته على النزول، ثم تركوهما بعدما استولوا على السيارة، دون أن يعرفوا أن أخطر رجالات الأسد كان في السيارة الثانية خلفهم.
ولأن صوره وهويته ظلّت مزيفة حتى في الوثائق الأميركية والبريطانية، لم يتعرّف عليه أحد. حصلت الصحيفة على صورة حديثة نادرة له، وتحقّقت من صحتها.
تابع الحسن طريقه حتى وصل إلى لبنان، ثم إيران، بمساعدة مسؤولين إيرانيين، قبل أن يعود لاحقاً إلى بيروت ضمن صفقة لتقديم معلومات لأجهزة الاستخبارات الأميركية. وقال معارفه إنه يعيش حياة مرفهة، يتردد على المقاهي والمطاعم الراقية مع زوجته.
عند الاتصال به عبر رقم لبناني، رفض إجراء مقابلة.
واقع مرير
بالنسبة لعشرات الآلاف من السوريين الذين كانوا ضحايا نظام الأسد، يبدو أن العدالة بعيدة المنال.
يبقى السؤال ما إذا كانت الحكومة الحالية بقيادة أحمد الشرع تمتلك الإرادة أو القدرة على ملاحقة كبار مجرمي الحرب من عهد الأسد، خصوصاً أن ذلك قد يُسلّط الضوء على انتهاكات بعض مسؤوليها أيضاً.
ومع استمرار الانقسامات الدولية حول الملف السوري، لا يبدو أن هناك أملاً قريباً في محكمة دولية أو آلية عدالة شاملة.