أخبار اليوم - في ظهيرة يومٍ خريفي ثقيل، تخلله غبار الحرب ورائحة البارود العالقة في الهواء، استقلّت عائلة "شعبان" مركبةً مدنية متواضعة، لم يكن في نيتهم سوى أن يروا للمرة الأخيرة أطلال منازلهم التي دمّرتها طائرات وآليات الاحتلال الإسرائيلي شرق حي الزيتون في مدينة غزة، بمنطقة قريبة من دوّار الكويتي.
ركبوا الحافلة الصغيرة كمن يركب الأمل، أو كمن يتمسّك بشيءٍ يشبه الحياة، حتى لو كان بين ركام الذكريات. لم يحملوا سلاحًا، ولا راية، فقط عيونهم المليئة بالحزن وأطفالهم الذين يحلمون بعودة مدرستهم وألعابهم.
كانوا أحد عشر روحًا من رجالٍ ونساءٍ وأطفال، يمضون في طريقٍ آمنٍ يقع بعد ما يُعرف بـ"الخط الأصفر" – خطٍّ وهميٍّ رسمته اتفاقية وقف إطلاق النار بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، برعاية دولية.
لكنّ الاحتلال لا يعترف بالخطوط ولا بالمواثيق، ولا يفهم إلّا لغة القتل. فجأةً، ومن دون سابق إنذار، شقّت السماء صرخات طائرةٍ حربيةٍ إسرائيلية، فانقضّ الصاروخ الأول، ثم الثاني، كما ينقضّ الموت على أعمارٍ لم تكتمل بعد. في لحظة، تحوّلت الرحلة إلى جحيم، والمركبة إلى كرةٍ من اللهب تتناثر منها أشلاء الصغار قبل الكبار، وفق رواية ميسرة شعبان، ابنة عمّ الشهداء.
استُشهد على الفور سفيان عثمان شعبان، الأب الذي نذر نفسه طوال الحرب لانتشال جثامين الشهداء من تحت الأنقاض، والذي كفّن بيديه أكثر من 28 فردًا من أبناء عائلته، ليكون هو اليوم المكفَّن رقم 29. واستُشهدت معه زوجته سمر أبو شعبان، السيدة التي حلمت بترتيب بيتها من جديد بعدما سكنته الحمم.
أما أطفالهما: نسمة (16 عامًا) الفتاة التي لم تُكمل عامها الدراسي، وكرم (9 أعوام) الذي لم يعرف من الحياة سوى أنه عاش حربًا لا تُبقي ولا تذر، وأنس (12 عامًا) الطفل الذي لم يرَ شيئًا جميلًا في هذا العالم سوى والدته.
وإلى جانبهم قضى صهره إيهاب ناصر أبو شعبان (38 عامًا)، وزوجته رندة ماجد (36 عامًا)، وأطفالهما: ناصر (13 عامًا)، جمانة (10 أعوام)، إبراهيم (6 أعوام)، ومحمد (5 أعوام).
عائلةٌ كاملةٌ مُسحت من على وجه الأرض في ثوانٍ، لا لذنبٍ اقترفوه، بل لأنهم تجرؤوا على الحلم بالعودة إلى بيتٍ مهدوم.
صوت من الغياب
تقول ميسرة شعبان، إحدى قريبات العائلة، إنهم كانوا قد أخبروا الجيران بنيّتهم الذهاب لتفقّد المنزل، وكانوا يعتقدون أن المنطقة آمنة، خاصة بعد الإعلان عن وقف إطلاق النار وانسحاب القوات الإسرائيلية من مناطق قريبة.
وتضيف شعبان لصحيفة "فلسطين" بحزن شديد: "لو كانوا يعلمون أن السماء تخبّئ موتهم، لما صعدوا تلك السيارة".
وفي وسط هذا الخراب – والقول لشعبان – نجا عثمان سفيان شعبان (15 عامًا) بأعجوبةٍ شبه أسطورية، إذ قُذف خارج المركبة بفعل الانفجار، فركض لا شعوريًا عبر الأراضي المدمّرة، دامي القدمين، فاقدًا للوعي تقريبًا، حتى وصل إلى منطقةٍ سكنيةٍ وسقط على الأرض.
وتكمل: "وعندما نُقل إلى المستشفى، كان فاقدًا للذاكرة، لا يعرف من هو، ولا يعرف أنه فقد أسرته كلها. لم يسأل عن أحد، نظر حوله كمن أفاق من حلمٍ ثقيلٍ لا يريد أن يتذكّره".
وقال الأطباء إن ما حدث له يُعرف بـ"الصدمة العنيفة الناتجة عن فقدٍ جماعي"، وهو نوعٌ من الإنكار العقلي يصيب من فقد كلَّ شيءٍ في لحظة.
وتلفت شعبان إلى أن "سفيان" كان طوال الحرب ملاكًا في هيئة رجل، يجري نحو الخطر لينقذ الجرحى، يقتحم الدمار لينتشل جثث الأطفال، يدفن الأحباب، ويبكي الغرباء كما لو كانوا أولاده.
ويقول أحد أقاربه: "لم نرَ سفيان يبكي إلا مرةً واحدة، حين حمل بين يديه جثة طفلٍ من العائلة، أما بقية الوقت فكان قويًا كأن لا شيء يهزّه، لكن يبدو أن الاحتلال كان يراقبه، حتى قرر أن ينهي قصته بنفسه".
نسف الهدوء
وقعت المجزرة رغم سريان اتفاق وقف إطلاق النار الذي دخل حيّز التنفيذ في 10 أكتوبر 2025، بعد وساطةٍ إقليميةٍ ودولية، ينصّ على انسحاب الجيش الإسرائيلي من مناطق معيّنة، من بينها تلك التي وقع فيها الاستهداف.
لكن يبدو أن جيش الاحتلال، كما أكدت جهاتٌ حقوقية، يسعى عمدًا إلى تأجيج الأوضاع الميدانية وخلق الذرائع للتنصّل من الاتفاقات، عبر قصف المدنيين واستهدافهم في مناطق يُفترض أنها آمنة.
وقال المتحدث باسم جهاز الدفاع المدني في قطاع غزة، محمود بصل، إن "الاحتلال تعمّد استهداف المركبة دون إنذار، رغم وضوح أنها مدنية وتقلّ أطفالًا ونساءً"، مؤكدًا أن "ما جرى هو مجزرة بكل معنى الكلمة".
ومنذ بدء الحرب المدمّرة على القطاع في 8 أكتوبر 2023، ارتفع عدد الشهداء في قطاع غزة إلى أكثر من 67,967 شهيدًا، فيما أُصيب أكثر من 170,179 آخرين، معظمهم من النساء والأطفال، بينما توفي 476 فلسطينيًا بسبب المجاعة، التي كانت سلاحًا موازيًا للرصاص.
ومع كلّ شهيدٍ جديد، تُضاف قصة، وتُكسر عائلة، ويُغرس جرحٌ جديد في قلب هذه الأرض المنهكة.
المصدر / فلسطين أون لاين