أخبار اليوم - عواد الفالح - يتصاعد النقاش حول زيادة رواتب العاملين والمتقاعدين، عسكريين ومدنيين، بوصفها حقًا مؤجلًا منذ سنوات طويلة في ظل تآكل القوة الشرائية وارتفاع الأسعار، فيما تَظهر في المقابل حججٌ مالية وإجرائية تُحذّر من كلفة أي قرار واسع على الموازنة العامة. في موجة المطالب هذه تتجاور الأصوات: من يرى الزيادة واجبًا وطنيًا وردَّ اعتبار للطبقات التي تآكلت دخولها، ومن يخشى أن تتحول إلى خطوة رمزية محدودة الأثر لا تَمس جوهر الأزمة المعيشية.
أنصار الزيادة يضعون القاعدة الأخلاقية قبل الحسابات: كرامة الجندي والعامل والموظف والمتقاعد لا تُقاس بأرقام جامدة، ومن غير المعقول أن تبقى رواتب عند حدود 200 أو 300 دينار فيما تتضاعف نفقات السكن والغذاء والطاقة والالتزامات البنكية. يلفتون إلى المتقاعدين القدامى ومن تقل رواتبهم عن حد الكفاية، وإلى الورثة وذوي الشهداء والأرامل، وإلى المتقاعدين مبكرًا من الضمان الذين يفتقد كثير منهم التأمين الصحي وحدًا أدنى يحميهم من الفقر. وفي الاتجاه نفسه يبرز مطلب المساواة: لماذا يُنظر إلى العسكري دون المدني أو العامل في القطاع الخاص؟ ولماذا لا تُعالج الفجوات الشاسعة بين رواتب متدنية جدًا ورواتب عليا فلكية؟ من هنا تخرج دعوات لوضع سقف أعلى للرواتب والامتيازات، ولتصفير الهدر، وترشيد السفرات والمياومات، ومراجعة الرواتب الخاصة في الهيئات المستقلة ليُعاد توزيع الفائض لمصلحة القاعدة الأوسع من أصحاب الدخل المحدود.
على الضفة الأخرى يحضر المنطق المالي البارد: أي زيادة عامة كبيرة قد تُضيف مئات الملايين سنويًا إلى بند الرواتب، ما يضغط على العجز والدين ويُعرّض الاقتصاد لمخاطر تضخمية جديدة، وقد تُبتلع الزيادات سريعًا بارتفاعات لاحقة في الأسعار والضرائب والرسوم. أصحاب هذا الرأي لا يرفضون التحسين، لكنهم يدعون إلى صيغ أدقّ وأقل كلفة: زيادات مُوجهة لمن هم دون عتبةٍ معيّنة، ربط دوري جزئي للرواتب الأدنى بالتضخم، تخفيف فوري لأعباء الفواتير والضرائب غير المباشرة، وتوسيع مظلة التأمين الصحي للفئات الأكثر هشاشة بدل زيادات نقدية عامة قد لا تُحقق الأثر نفسه. ويذهب بعضهم إلى اقتراح حلول بديلة كتخفيف أقساط القروض أو الفوائد عن الشرائح الأضعف، أو منح علاوات معيشة مرنة بدل زيادات دائمة على الأساسي.
وبين الموقفين يبرز خط ثالث يحاول تركيب معادلة تجمع الكرامة والاستدامة: زيادة مرحلية مُركّزة على الرواتب المتدنية أولًا، تترافق مع إصلاح جديّ لهيكل الأجور يُقارب الفوارق على القمة، ومع حزمة إجراءات موازية تخفف الكلف على الأسر (نقل، كهرباء، مياه، دواء، وتعليم) وتدعم أصحاب الراتب التقاعدي المتآكل والورثة والأرامل، على أن يُبنى كل ذلك على بيانات شفافة تُحدّد عدد المستفيدين وكلفة كل سيناريو وأثره، وأن يخضع لتقييم سنوي يُصحّح المسار. في هذا الخط الوسط تُطرح أيضًا فكرة “مؤشر غلاء” وطني يُحدِّث العلاوات تلقائيًا ضمن هامشٍ مدروس، مع توحيد أسس القياس بين المدنيين والعسكريين والعاملين في القطاع الخاص كي لا تتحول الزيادة إلى مصدر تباين جديد.
في النهاية، يبدو أن السؤال أبعد من “نزيد أم لا”: أيّ زيادة نريد؟ لمن تُوجَّه؟ ومن أين تُموّل؟ وكيف نضمن أن تتحول من خبرٍ عابر إلى فارقٍ ملموس في حياة الناس؟ بين مطلب العيش الكريم وضرورات الانضباط المالي، هل يذهب القرار إلى زيادةٍ عامة تُرضي الجميع مؤقتًا، أم إلى صيغةٍ ذكية تُنصف الأضعف أولًا وتؤسس لإصلاحٍ مستدام يَحفظ الأجور والكرامة معًا؟