أخبار اليوم - حين نسترجع مسيرة الأدب العربي، يتعذر علينا أن نتجاهل الحضور الحيّ والمشتعل للمرأة، ذاك الحضور الذي لم يكن يوماً ديكوراً هامشياً، بل كان نبضاً أصيلاً، ووهجاً متأصلاً في جذر النص؛ لم تنتظر المرأة في ثقافتنا من يمنحها دوراً أو يفسح لها مكاناً، بل اقتحمت ساحة الأدب من أوسع أبوابه، تكتب، وتصرخ، وتحب، وتثور، وتبني خطاباً خاصاً لا يقل شموخاً عن أي صوت آخر.
الخنساء، مثلاً، لم ترثِ أخاها صخراً فقط، بل شيّدت بدموعها مدرسة في الرثاء، تقف في صفوفها الكلمات بخشوع؛ شِعرُها، بحدّته وشفافيته، لا يزال يشهد على أن الحزن حين يخرج من فم امرأة، قد يتحول إلى حكاية لا تنتهي؛ ولّادة بنت المستكفي، لم تكن ظلاً لرجل، ولا صدى لصوت، بل كانت طيفاً حراً، يكتب بجرأة الندّ للند، تفخر، وتحب، وتترك أثرها واضحاً على جدار الزمن؛ كلماتها لم تكن مجرد غزل، بل بياناً أدبياً صريحاً بأن المرأة قادرة أن تقول، وتُدهش، وتبني مجدها بقلمها وحده.
ثم تصعد التجربة إلى ذراها الروحية، حيث تجد المرأة في التصوف ملاذاً من ضيق الواقع، وفضاءً رحباً لبوحٍ لا يحده جسد ولا يرهقه قيد؛ رابعة العدوية لم تكتب حباً أرضياً ولا افتتاناً بشخص، بل وقفت وحدها في مواجهة الله، وقالت ما لم يجرؤ الرجال على قوله؛ كانت عاشقة من طراز لا يشبه أحداً، وشِعرُها ارتفع كدعاء لا يخبو، وكسؤال لا جواب له سوى المحبة المُطْلَقَة؛ عائشة الباعونية، بدورها، لم تكن فقط وريثة لتلك التجربة، بل مُؤَسِّسَة ومُجدّدة؛ كتابها (فيض الفضل) ليس مجرد ديوان، بل مرآة لروح مشتعلة، لغتها مزيج من سمو العرفان ودقة التعبير، وكتاباتها تشهد على امرأة تعرف الطريق إلى الله كما تعرف الطريق إلى الكلمة.
وفي لحظة التحول الكبرى التي سُميّت (النهضة)، لم تبقَ المرأة خلف الحجاب الفكري والاجتماعي، بل خرجت، لا خاضعة ولا هامشية، بل صاحبة موقف، وسيدة خطاب؛ مي زيادة لم تكن نجمة صالون كما حاول البعض تصويرها، بل امرأة تحمل فكراً يقاوم، وعقلاً يحلل، وريشة تكتب لا تزين؛ في حروفها كان حضور المرأة العربية أكثر وعيًا وجرأة؛ نازك الملائكة فتحت نافذة الحداثة الشعرية، لم تنتظر اعترافاً، بل فرضت حضورها بنبرتها الجديدة، وبحسّها القادر على تحويل الألم إلى موسيقى لغوية متقنة؛ غادة السمان كتبت كأنها تفر من نار، كأنها تعيد تشكيل العالم بكلمات مغموسة في الحب والمنفى، في الغضب والثورة؛ بعدها، أحلام مستغانمي وضعت يدها على الجرح العربي المزمن، وكتبته بلغة تنزف، تخلط بين الوجدان والتاريخ، بين هوية تتشظى، ووطن يسكن الحبر.
واليوم، تتقدم المسيرة بشجاعة؛ هدى بركات تنقّب في ذاكرة المنفى، وتجعل الألم نسيجاً روائياً متيناً؛ رجاء عالم، بثيماتها الغامضة، تكتب عن الحلم بلغة المسّ الروحي؛ بثينة العيسى تخوض في أسئلة الجسد والانتماء، تتعامل مع الهوية كأرض محتلة تكتب عنها بصلابة الشوق؛ ومها حسن، بحسّها السردي العميق، تفضح هشاشة الإنسان حين تفترسه الذاكرة والمنافي.
ما كتبته المرأة في الأدب العربي ليس مجرد كتابة، بل تاريخٌ موازٍ، سردية موازية للحروب، للخرائط، للأزمنة؛ صوتها لم يكن يوماً صدى لأحد، بل كان صوته هو، صوتها هي، الذي قاوم الصمت، وأعاد تشكيل اللغة، ونحت الذاكرة بأصابع من نار وحنين؛ ومن يُصغِ حقاً، سيكتشف أن في كتاباتها ليس فقط نَفَس الحياة، بل نبوءة المستقبل.